منذ ظهرت نتيجة امتحانات كادر المعلمين ، اختفى أخونا عبد الودود أفندي من جلستنا الأسبوعية في قهى السعادة ، وتناهت إلى مسامع بعضنا إشاعات أنه رسب في اللغة الإيطالية التي لم يدرسها قط ، فهو معلم مجال صناعي في الأصل ، وتم ندبه لتدريس المحاسبة لظروف العجز الطارئ ، قبل أن ينتهي به الحال سائقا لسيارة حرم السيد المدير العام ، وهي سيدة حولاء كثيرة العطس والزجر ولكنها تتمتع بخلق عال برغم ضعف سمعها ، والذي غاظ الأستاذ عبد الودود أن سيادتها نجحت في امتحانات الكادر مع أنها تعمل بمديرية التموين في وظيفة أخصائي مكتبات ...!!
عقدنا جلستنا الأسبوعية مساء الأربعاء الرابع لظهور النتيجة ، وكان الأستاذ بطيخ في أحسن حالاته فقد نجح بتقدير كبير ، لأنه كما قال كان قد تسرب له الامتحان من بقال صديق له حين اشترى منه ببريزة بقلاوة فقام بلفّها في ورقة الامتحان الكادري الخاصة باللغة العربية مما جعل بطيخا يعود سريعا ليشتري المزيد من البقلاوة حتى استكمل كراسة الامتحانات لأن الامتحان أطول من ملاحق اتفاقية طابا . مما كلفه سبعة عشر جنيها .. وحالة صعبة من المغص والإسهال من كمية البقلاوة التي نزلت إلى سراديب بطن لم يذق اللحوم منذ ثورة 15مايو 1971
شدّ موهوب نَفَساً تاريخياًّ من شيشته احتفالا بهذه المناسبة وقال : مع أنني نجحت (بالغش) في الامتحان ، فإنني أشعر بأن الحكومة – حماها الله من التغيير والتبديل – اتخذت هذا الامتحان وسيلة لتصفية ما تبقى في المدارس من فصيلة المعلمين الشرفاء ، دون أن تنتظر انقراضهم الطبيعي بالموت أوالإحالة للتقاعد أوالجَلْد عبر البحار.
قال له بطرس وهو يداعبه : أليس الغش حراما يا أخ موهوب ؟ قال موهوب وقد تأهب لمشاجرة : بلى يا أستاذ هو حرام في الخطب والدروس ودور العبادة لكن في الواقع المعيش هو أبو الحلال وأخوه في الرضاعة الطبيعية . والدليل على ذلك أن بلادنا انتقلت مباشرةً من مرحلة الاستعمار الانجليزي إلى مرحلة الاستحمار الوطني الديموقراطي دون أن تمر بالمرحلة الإعدادية ، مما جعلنا نمر الآن بحالة حرجة من " العمل " الوطني الخلاَّق من أجل تعميم الفساد والرشوة للّحاق بركب الدول المندفعة نحو الهاوية .
تململ أبو الدهب قليلا من هذا التحليل وشخط في موهوب : أتنكر يا أخ موهوب أن الحكومة رشيدة ؟ أخت رشيد أحمد رشيد ؟ وأنها لأول مرة في تاريخ مصر ضمت وزراء اسمهم هاني ويسري وفي التعديل القادم يأتي وزراء اسمهم تامر وهيثم ؟ صحيح أنتم شعب لا يعجبه العجب ولا الصيام في مارس . يا أخي اتق الله واغسل مخك قبل أن تتفوه بهذه الأفكار الهدامة .
ضحك موهوب ضحكة تزلزلت لها أركان القهوة ثم قال : أنا أعرف غسيل الأموال لكنني لا أعرف غسيل المخ . فكيف يكون ذلك يا عم الحاج ؟
قال أبو الدهب : أمثالك من صغار الموظفين لا يحق لهم مناقشة الشؤون العامة فهي حِكْر لأولئك الأكابر الذين تتضوأ بهم حياتنا كما الأقمار الصناعية عبر الفضائيات ويصدّعوننا ليلا ونهارا بأننا داخلون حتما على مرحلة جديدة من " العمل " الوطني
قال شريف : إنه سمع هذه العبارة من المسؤولين وهو في اللفّة ، وما يزال يسمعها منهم وهو مقبل بروح رياضية عالية على سن التقاعد .. ويود أن يفهمها .
قال بطيخ : في المرحلة السابقة من " العمل " الوطني كانت مصر في الحقبة الثورية تردد – حسب الميثاق – " العمل " حق .. " العمل " عبادة .. " العمل " واجب . وفي الحقبة المؤمنة كانت تردد – حسب ورقة أكتوبر ومقتضيات التصحيح – " العمل " بقانون الطوارئ ، و" العمل " على راحة المستثمرين ، أما في حقبة كأس أفريقيا وازدهار الكباري فقد صار " العمل " في ذمة التاريخ وجمَّدوا جريدته ( الشعب ) وأصبحت [ الزبالة ] شعارا للمرحلة تُحصَّل تكلفتها مع تكلفة الكهرباء ، ففي العالم المتخلف كأمريكا واليابان يحسبون الكهرباء بالكيلو/ وات ، ونحن – لشدة تقدمنا -نحسبها بالبرميل والصفيحة ، وتتكلف ميزانية الحكومة ثلاثة عشر مليارا من الجنيهات سنويا تُدفع لشركات أجنبية تجمع لنا زبالتنا !!!!!!!!!!!!!!!!! . لأن شبابنا يؤمن – في نظر الحكومة – بأن الزبالة رجس ونجاسة ، فلا يقوى ولا يُقبل على " العمل " بجمعها ، وهو الشباب العفيف التقي النقي الطاهر الساهر في مقاهي الانترنت يطلب العلم بكل احترام وقوة وتركيز .!! فإذا أصبح عليه الصبح عاد إلى بيته متحرشا بمن يلقى بكل احترام وقوة وتركيز .!!
قال أبو الدرداء وشهرته مصعب : 13مليونا ندفعها للزبالة ؟ قال شريف مصححا : 13 ألف مليون يا بغل . !! المليار ألف مليون . أنا كان عندي في البورصة عشرة آلاف جنيه – شقاء عمري – كنت أنتظر أن يبلغوا مليارا ، فلما حدثت الكارثة في أميريكا وصل رصيدي إلى مائتين وثلاثة وسبعين قرشا ، مع أن الحاج عليوة وزير الاستحمار قال إن مصر لن تتأثر بأحوال أمريكا . مما يجعلني أفكر جدّيا في السفر فقط لكي أُجلد فأتوب عن التعامل مع البورصة .
قال موهوب : مصر لن تتأثر بكارثة تأثر بها العالم كله – 13 مليار لجمع الزبالة تسكعها الحكومة سنويا من دافعي الضرائب – بيع الشركات التي لا تجد مشتريا بعد الأزمة الدولية بيعا إجباريا للغلابة تحت اسم ( صكوك ) – امتحانات للمعلمين – بذمة النبي والولي والإمام الشافعي وسيدي الطنطاوي "ذا كان هذا كله لم يحدث مثيل له في أيام الاستعمار ؟ فماذا تسميه يا سيد بطيخ ؟
قال بطيخ : إنها مرحلة جديدة من الاستحمار يا .... بغل . !!
د. مصطفى رجب : بتاريخ 5 - 12 - 2008 صحيفة المصريين